في زمنٍ يتّسم بالسرعة المتزايدة والتسارع الرقميّ، يشهد عالم الموضة على يقظة عميقة. وفي صميم هذه التحوّلات تكمن العودة إلى العمل اليدويّ، وإلى ما هو محمّل بالقصص والروح: إنّها نهضة الحِرفة. ففي وقتٍ تُعدّ فيه تقنيّات الحِرف التراثيّة على شفير الزوال، يتقدّم جيل من المصمّمين الرؤيويين للحفاظ على هذه المهارات حيّة، ونسج التقاليد في قماش مستقبل الموضة الراقية.
من حرير فاراناسي المنسوج يدويًّا، إلى تطريزات مشاغل ليزاج في باريس، لطالما أغنت الطرق الحرفيّة التقليديّة التي تعود إلى القرون الماضية القطع بعمق ثقافيّ وغنى ملمسيّ. غير أنّ العولمة والتصنيع جعلا الكثير من هذه الحِرف غير مجدية اقتصاديًّا، فتحوّل ما كان يُورَّث من جيل إلى جيل إلى مهارات مهدّدة بالاختفاء مع آخر الحرفيين الخبراء.
وأدرك الفوج الجديد من المصمّمين العظماء – أمثال ماريا غراتسيا كيوري في ديور، وغابرييلا هيرست سابقًا في كلوي، وجوناثان أندرسون الذي استلم الدفّة الإبداعيّة في لويفي حتى شهر مارس في 2025 – أنّ الموضة ليست مجرّد تعبير جماليّ، بل وسيلة لصون الثقافة. وفي مجموعاتهم، لا يُعدّ التطريز مجرّد زخرفة، بل لغة. والنسيج ليس مجرّد قماش، بل ذاكرة. فأعمالهم تتجاوز الصيحات، لتكون حوارًا موقرًا بين الماضي والحاضر.
في ديور، تعاونت كيوري مع حرفيين هنود لتسليط الضوء على تطريزات زاردوزي وآري في الهوت كوتور، محافظةً على أصالة تقاليد الحرفة المحليّة. وبالمثل، أقامت هيرست شراكات مع تعاونيات نسائيّة في الأوروغواي وبوليفيا، تضمن من خلالها الحفاظ على التقنيّات الأصليّة عبر تجارة أخلاقيّة.
ويرتبط هذا الإحياء للحِرفة أيضًا بتغيّر قيم جيل جديد من المستهلكين. ففي مقابل الطابع الاستهلاكي الزائل للموضة السريعة، يُعاد تعريف الفخامة اليوم لا عبر الشعارات أو الأسعار، بل من خلال الأصل والعمليّة والغرض. فبنت علامات مثل Bode وربيع كيروز هويّتها بالكامل على الحرفيّة، باستخدام أقمشة عتيقة أو إحياء تقنيّات قديمة، لتقدّم قطعًا نابضة بالحكايات، تدعو مرتديها لأن يكونوا أوصياء على التاريخ، لا مجرّد مستهلكين للموضة.
لكن هذا التوجّه لا يخلو من التحدّيات. فالحفاظ الحقيقيّ لا يكتفي بالإعجاب الجماليّ، بل يتطلّب استثمارًا طويل الأمد وتعليمًا وشراكات عادلة. والرمزيّة، حين تختزل الحِرفة إلى مصدر غريب، تُعرّض للزوال التقاليد نفسها التي يجب عليها تكريمها. لذا، تبرز مبادرات مثل شبكة المدن الإبداعيّة التابعة لليونسكو، ومدرسة الأمير لفنون التراث التقليديّ، وبرامج الحفاظ على التراث التي أطلقتها مجموعات الموضة الكبرى، لتوفير أنظمة بيئيّة مستدامة تدعم الحرفيين. فمن خلال خلق فرص لنقل المعرفة والتعويض العادل، تضمن أن تبقى هذه الحِرف مصدر عيش مستدام.
وفي تكريمهم لليد الحرفيّة، لا ينظر مصمّمو اليوم إلى الماضي بعين الحنين فحسب، بل يصيغون رؤية جديدة للموضة ترتكز على الاحترام والصمود والمسؤوليّة. وفي هذه الرؤية، يكمن الجمال ليس في القطعة النهائيّة فحسب، بل في كرامة صنعها الهادئ. ومن خلال صون الماضي، يساهمون في تشكيل مستقبل تصبح فيه الموضة مجدّدًا حاملة للثقافة، وراوية للقصص، ودليلًا على قوّة الإبداع الإنسانيّ الدائمة.
مقالة من كتابة ميرلّا حدّاد
- الكلمات المفتاحية
- عالم الأزياء الراقية